top of page

برلين

خريف 1943

 

مقتطفات من افتتاحية مشهورة لكامل مروة نشرت في "الحياة" قبل بضعة اشهر من اغتياله عام 1966، يروي فيها ذكرياته في برلين مع نقيب الصحافة الراحل عفيف الطيبي. وقد أعتبرت هذه الافتتاحية عند اغتياله بأنها "نبوءة" أو "رؤية" بسبب ما جاء في فقرتها الأخيرة من وصف لكيف سيقضي: وراء مكتبه ويده على التلفون.

كانت الساعة السابعة مساء في برلين، والظلمة أطبقت على العاصمة الألمانية، وأنا واقف أمام مدخل فندق «إيدن»، أنتظر سيارة تقلني إلى محطة السكة «تسو»، [أي محطة «حديقة الحيوانات»] لأركب القطار إلى صوفيا.
كان ذلك في 22 من تشرين الثاني (نوفمبر) 1943، والحرب العالمية الثانية قد بلغت ذروتها، والغارات الجوية الكبرى على ألمانيا على وشك الإنطلاق. كان رفيقي عفيف الطيبي قد جاء يودعني، فركبنا السيارة معاً. ولكن ما أن سارت بنا بضعة أمتار حتى زعقت صفارات الإنذار. فتوقفت السيارة على محاذاة الرصيف وهرعنا جميعاً الى أقرب ملجأ. بعد نصف ساعة سمعنا هدير المحركات في الجو يقترب، فقال الحارس الملجأ بقلق:
- يخيل إلي أنهم قادمون إلى هذا الحي!
ولم يكن الرجل مخطئاً تماماً في حدسه فإذا بالصفير يملأ الجو منذراً بتساقط القنابل في الهواء، وبعد لحظات بدأت الإنفجارات تترى حولنا من كل جهة، وصار ملجأنا الواقع تحت بناية مؤلفة من عشر طبقات يهتز كالأرجوحة. وظلت الإنفجارات تتعاقب طوال ربع ساعة، خلناها دهراً، ثم انقطعت، وعقبها سكون رهيب، وعادت صفارات الإنذار تعلن نهاية الغارة.
خرجنا من الملجأ، فإذا بنا أمام مشهد مقتطع من «جحيم» دانتي. كانت النيران تشتعل في المباني على جانبي الجادة العريضة، وكانت الوحوش الشاردة، الهاربة من حديقة الحيوانات المجاورة، تهيم في الشارع على غير هدى، وقد أفقدها مرأى النيران المندلعة صوابها. فرحنا نعدو في الشارع، بين الأنقاض، وسط المواكب المتدافعة من الناس والحيوانات، وقد عقد الرعب ألسنتنا، فلا نسمع غير أزيز اللهب وانهيار الحطام، حتى وصلنا مأمناً عند الكنيسة التذكارية للامبراطور غليوم، فوقفنا نلهث وننفض الرماد عن ثيابنا، والدخان يكاد يخنقنا. وبعد هنيهة قال لي عفيف: الحمد لله على السلامة! سبحان ربك، من كان له عمر فلن يموت تحت القنابل، ولا وسط النيران، ولا بين النمور والذئاب، ولكن حين ينفذ زيت العمر يموت المرء على فراشه... أو وراء مكتبه!
«أو وراء مكتبه»!

يا لها من نبوءة طالما رددتها وأياه فيما بعد كلما جلسنا نتشاكى مصاعب الحياة وجور البشر وعقوق المهنة، ونستعيد ذكريات الحرب التى قضيناها معاً في أوروبا الوسطى، وكان يطيب لعفيف أن يعود الى ذكرى «شارع الجحيم» في برلين حين ترهقه متاعب الصحافة، فيقول لي كما قال ذات مرة: والله العظيم... مليون قنبلة لم تقتلنا، ولكن هذه المهنة أعظم فتكاً من غارة ألفي طائرة. أتذكر برلين يوم نجونا من النيران والقنابل والسباع؟ أما هذه المهنة... هذه الصحافة... هذه المزعجات والملاحقات... إنها ستقتلني. وإذا بقيت على هذا المنوال سأموت على هذه الكرسي، ويدي على التلفون!

bottom of page