top of page

11

نهاية الزمن الجميل

Anchor 1

إستفاق لبنان والعالم العربي صباح الثلاثاء 17 أيار 1966على وقع نبأ اغتيال كامل مروة، وصدرت صحف ذلك اليوم بعناوين عريضة تحاول تفسير ما جرى. فقد تم القبض على القاتل بعد مطاردة قصيرة في شوارع وسط بيروت. وبدأت اعترافاته المثيرة - والمتوقعة في آن - تتسرب الى الإعلام.

أما المسؤولون اللبنانيون، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية آنذاك شارل حلو، فسعوا الى لملمة الجراح، أقله موقتاً، متجاوزين انقساماتهم الحادة. ولكن الأمور لم تعد كما كانت عليه قبل هذا الاغتيال. شيئاً ما تغيّر نهائياً في لبنان: لقد انتهى الزمن الجميل، وبدأت مرحلة الاضطراب.

● ● ●

لم يكن اغتيال مروة أول اغتيال سياسي يعرفه لبنان بعد نيله الإستقلال. لكنه كان أول اغتيال تنفذه جهة خارجية على أرضه، ويتم معرفة من هي. إذ شاء سوء طالع هذه الجهة أن يتم القبض على القاتل و"المحرّض"، وأن تنفضح بالتالي هويتها عبرهما. وتبين أن القاتل هو شاب من بيروت يدعى عدنان شاكر سلطاني، بينما "المحرّض" كان أحد زعماء الأحياء المسلحين فيها ويدعى إبراهيم قليلات.

وما أن انتشر خبر أن القاهرة هي وراء المؤامرة، حتى سارع أتباعها في الشارع البيروتي الى التهديد والوعيد عبر إلقاء القنابل في زوايا الأحياء، ورفع صور قليلات والرئيس جمال عبد الناصر تحدياً، وتوزيع بيانات التخوين، في عودة الى أجواء أحداث 1958.

فهمت السلطات اللبنانية الرسالة، وسعت الى ولوج مسار يجنبها غضب القاهرة. فتظاهرت بالحزم وجلبت سلطاني وقليلات الى العدالة، فيما بقي مشاركان آخران متواريين، هما عامل الهاتف في "الحياة" محمود الأروادي والمرافق الخاص لقليلات، أحمد "سنجر" المقدم، اللذان تبين لاحقاً أنه تم تهريبهما الى مصر.

وفي المقابل تنازلت السلطات تنازلاً كاملاً عن إجراء أي تحقيق جدي يتعلق بدور المخابرات المصرية في تنظيم المؤامرة، بالرغم من ورود اسمها في معظم إفادات الموقوفين. وروّجت للمقولة بأن القتلة ليسوا سوى "متحمسين ناصريين"، وأن لا علاقة للقاهرة بما اقترفوه من جرم. ثم أحالت الملف الى مجلس عدلي مؤلف من خمسة قضاة، تم استبدال أحدهم فجأة في منتصف المحاكمة، مما جعل ميزان القضاء يميل الى صالح المتهمين.

ودامت المحاكمة مدة سنتين، واختلط فيها الجد بالهزل، ورافقتها أعمال تفجير وعنف طالت عدداً من دور النشر المعارضة للتيار الناصري. ونال مبنى "الحياة" وحده يومئذٍ أكثر من عشر قنابل، إكتُشف بعضها قبل أن ينفجر، فيما تسبب البعض الآخر بأضرار مادية جسيمة.

وبنهاية عام 1968، أصدرت المحكمة حُكمها، فقضت بالإعدام للقاتل سلطاني، وبالسجن للمشاركين الفارين الأروادي والمقدم، بينما برّأت "المحرض" قليلات.

ثم تبع ذلك عفو رئاسي قضى بتخفيض عقوبة الإعدام الصادرة بحق القاتل الى السجن 20 عاماً. ومع ذلك لم يُكمل سلطاني عقوبته، إذ نجح في الإفلات من سجنه إبان الحرب الأهلية عام 1976، أي بعد مرور 10 سنوات على جريمته. كما لم يتم تعقب الهاربين الأروادي والمقدم، وبقيا حرّين طليقين.

● ● ●​

كان الرئيس حلو لا يستسيغ التحديات، ويحجم عن مواجهتها الى حدود إنكار وجودها. وغالباً ما كان رسامو الكاريكاتير في الجرائد في تلك الفترة يهزأون من قلة جرأته وانعدام تأثيره، ويصوّرونه بشكل النعامة  التي تدفن رأسها في الرمال. وشكلت صفات الضعف والتردد في عهده تحولاً كبيراً عن صفات القوة والحزم التي طبعت عهود الرؤساء السابقين بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب. وبرغم أن عهد الرئيس حلو كان عملياً امتداداً لعهد سلفه الرئيس شهاب، فإن ضعف شخصيته أدى في النهاية الى تخليه عن كثير من صلاحياته لصالح "المكتب الثاني"، كما كان جهاز المخابرات العسكرية اللبنانية يسمى آنذاك، والذي كان مخترقاً من قبل جهات إقليمية ودولية متعددة، ولاسيما المخابرات المصرية. فتضعضع مركز القرار داخل الدولة اللبنانية وتراجعت قدرتها على تحصين نفسها ضد العبث الخارجي المتنامي. وبالرغم من محاولات خلف الرئيس حلو، الرئيس سليمان فرنجية، إعادة بعض الهيبة للحكم، فإن ما ورثه من وهن فاق كل قدرات العلاج.

ولا شك في أن مؤامرة اغتيال مروة شكّلت تحدياً كبيراً لعهد الرئيس حلو. ولكن تراخي المعالجات إزاءها أدى الى استفحال عمليات تصفية الحساب داخل الكيان اللبناني، والى تحويله الى ساحة من ساحات الحرب الباردة المستعرة في الشرق الأوسط والعالم.

ويعتبر كثير من المؤرخين أن الرقص نحو الهاوية في لبنان إنما بدأ تحديداً بحادثة اغتيال مروة، في انزلاق تاريخي نحو القعر. إذ تسارع في أثرها التدهور بإفلاس "بنك إنترا" أكبر مصرف لبناني عام 1966، ثم باتفاق القاهرة برعاية الرئيس عبد الناصر والذي تم التنازل بموجبه عن السيادة اللبنانية في الجنوب للفصائل الفلسطينية المسلحة عام 1969، ثم بنشوء الميليشيات والعصابات غير الشرعية بدءاً من عام 1970، ووصولاً الى منع الجيش اللبناني من التدخل لوأد الحرب الأهلية عام 1975. وهكذا تهاوت الدولة، وحلت الكارثة، ودخل البلد الصغير في محرقة دموية استمرت عقدين من الزمن.

● ● ●​

صباح 17 أيار (مايو) 1966 نُقل جثمان كامل مروة من مستشفى الجامعة الأميركية الى منزله في بلدة بيت مري، حيث قرعت عند وصوله أجراس الكنائس حزناً. وفي اليوم التالي صُلي على جثمانه في الجامع العمري الكبير في وسط بيروت، في وحدة إسلامية ملفتة. ثم حُمل على الأكتاف في موكب مهيب.

كان الصمت يخيم على الجموع الغفيرة المتجمهرة على جنبات الطرقات، وكأن على رؤوسهم الطير. وكان الوجوم يطبع وجوه الناظرين المحتشدين على شرفات المباني، والرهبة تهيمن على الجميع، مع تواتر التهديدات باستهداف موكب الجنازة. لم تكن حادثة اغتيال مروة حدثاً عادياً. كان سكان العاصمة اللبنانية يخشون انفلات الوضع الأمني كما حدث بعد اغتيال الصحفي نسيب المتني عام 1958. برغم ذلك، نزل آلاف المواطنين الى شوارع بيروت لوداع مؤسس "الحياة"، وسار في مقدمتهم عدد كبير من السياسيين والصحفيين، في فعل تحدٍ لم تخف دلالته على أحد.

إتجه المشيعون بالنعش من الجامع العمري نحو ساحة رياض الصلح أولاً، ثم ساروا به نحو ساحة الشهداء، وبعدها استداروا صعوداً عبر شارع بشارة الخوري نحو حي رأس النبع، فمروا أمام منزل والدته في شارع عمر بن الخطاب، قبل أن يصلوا الى حرم «الكلية العاملية».

ومن «العاملية» إنطلق المشيعون بالسيارات الى صيدا حيث لاقتهم عند مدخل المدينة وفود شعبية كبيرة تقاطرت من مختلف قرى الجنوب. فترجّل القادمون من بيروت من سياراتهم، وسار الجميع بالجثمان الى جبانة البوابة الفوقا، المطلة على البحر، حيث وري كامل مروة الثرى بجوار والده.■

bottom of page